فصل: (سورة الصافات: الآيات 71- 74):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة الصافات: الآيات 50- 57]:

{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)}.
فإن قلت: علام عطف قوله فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ؟ قلت: على يطاف عليهم. والمعنى:
يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة الشرب، قال:
وما بقيت من اللّذّات إلّا ** أحاديث الكرام على المدام

فيقبل بعضهم على بعض يَتَساءَلُونَ عما جرى لهم وعليهم في الدنيا، إلا أنه جيء به ماضيا على عادة اللّه في أخباره. قرئ: {من المصدّقين} من التصديق. و{من المصّدّقين} مشدّد الصاد، من التصدّق، وقيل: نزلت في رجل تصدّق بماله لوجه اللّه، فاحتاج فاستجدى بعض إخوانه، فقال: وأين مالك؟ قال: تصدقت به ليعوضنى اللّه به في الآخرة خيرا منه، فقال: أإنك لمن المصدّقين بيوم الدين. أو من المتصدّقين لطلب الثواب. واللّه لا أعطيك شيئا لَمَدِينُونَ لمجزيون، من الدين وهو الجزاء. أو لمسوسون مربوبون. يقال: دانه ساسة.
ومنه الحديث: «العاقل من دان نفسه» قالَ يعنى ذلك القائل هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ إلى النار لأريكم ذلك القرين. قيل: إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى أهل النار. وقيل: القائل هو اللّه عز وجل: وقيل بعض الملائكة يقول لأهل الجنة: هل تحبون أن تطلعوا فتعلموا أين منزلتكم من منزلة أهل النار. وقرئ {مطلعون} {فاطلع} و{فأطلع} بالتشديد، على لفظ الماضي والمضارع المنصوب: و{مطلعون} {فاطلع} و{فأطلع} بالتخفيف، على لفظ الماضي والمضارع المنصوب. يقال: طلع علينا فلان، واطلع، وأطلع بمعنى واحد، والمعنى: هل أنتم مطلعون إلى القرين فأطلع أنا أيضا. أو عرض عليهم الاطلاع فاعترضوه، فاطلع هو بعد ذلك.
وإن جعلت الإطلاع من أطلعه غيره، فالمعنى: أنه لما شرط في اطلاعه اطلاعهم، وهو من آداب المجالسة. أن لا يستبد بشيء دون جلسائه، فكأنهم مطلعوه. وقيل: الخطاب على هذا للملائكة. وقرئ: مطلعون بكسر النون، أراد: مطلعون إياى، فوضع المتصل موضع المنفصل، كقوله:
هم الفاعلون الخير والآمرونه

أو شبه اسم الفاعل في ذلك بالمضارع لتآخ بينهما، كأنه قال: تطلعون، وهو ضعيف لا يقع إلا في الشعر فِي سَواءِ الْجَحِيمِ في وسطها، يقال: تعبت حتى انقطع سوائى، وعن أبى عبيدة:
قال لي عيسى بن عمر: كنت أكتب يا أبا عبيدة حتى ينقطع سوائى إِنْ مخففة من الثقيلة، وهي تدخل على كاد كما تدخل على كان ونحوه {إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا} واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، والإرداء: الإهلاك. وفي قراءة عبد اللّه: {لتغوينّ نِعْمَةُ رَبِّي} هي العصمة والتوفيق في الاستمساك بعروة الإسلام، والبراءة من قرين السوء. أو إنعام اللّه بالثواب وكونه من أهل الجنة {مِنَ الْمُحْضَرِينَ} من الذين أحضروا العذاب كما أحضرته أنت وأمثالك.

.[سورة الصافات: الآيات 58- 59]:

{أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)}.
الذي عطفت عليه الفاء محذوف، معناه: أنحن مخلدون منعمون، فما نحن بميتين ولا معذبين.
وقرئ {بمائتين} والمعنى أنّ هذه حال المؤمنين وصفتهم وما قضى اللّه به لهم للعلم بأعمالهم أن لا يذوقوا إلا الموتة الأولى، بخلاف الكفار، فإنهم فيما يتمنون فيه الموت كل ساعة، وقيل لبعض الحكماء:
ما شر من الموت؟ قال: الذي يتمنى فيه الموت.

.[سورة الصافات: الآيات 60- 61]:

{إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)}.
يقوله المؤمن تحدثا بنعمة اللّه واغتباطا بحاله وبمسمع من قرينه، ليكون توبيخا له يزيد به تعذبا، وليحكيه اللّه فيكون لنا لطفا وزاجرا. ويجوز أن يكون قولهم جميعا، وكذلك قوله إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي إن هذا الأمر الذي نحن فيه. وقيل: هو من قول اللّه عزّ وجلّ تقريرا لقولهم وتصديقا له. وقرئ: {لهو الرزق العظيم} وهو ما رزقوه من السعادة.

.[سورة الصافات: الآيات 62- 70]:

{أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)}.
تمت قصة المؤمن وقرينه، ثم رجع إلى ذكر الرزق المعلوم فقال أَذلِكَ الرزق خَيْرٌ نُزُلًا أي خير حاصلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ وأصل النزل: الفضل والربع في الطعام، يقال:
طعام كثير النزل، فاستعير للحاصل من الشيء، وحاصل الرزق المعلوم: اللذة والسرور، وحاصل شجرة الزقوم: الألم والغم، وانتصاب نزلا على التمييز، ولك أن تجعله حالا، كما تقول:
أثمر النخلة خير بلحا أم رطبا؟ يعنى أنّ الرزق المعلوم نزل أهل الجنة. وأهل النار نزلهم شجرة الزقوم، فأيهما خير في كونه نزلا. والنزل: ما يقال للنازل بالمكان من الرزق. ومنه إنزال الجند لأرزاقهم، كما يقال لما يقام لساكن الدار: السكن. ومعنى الأوّل: أنّ للرزق المعلوم نزلا، ولشجر الزقوم نزلا، فأيهما خير نزلا. ومعلوم أنه لا خير في شجرة الزقوم، ولكن المؤمنين لما اختاروا ما أدى إلى الرزق المعلوم، واختار الكافرون ما أدى إلى شجرة الزقوم، قيل لهم ذلك توبيخا على سوء اختيارهم فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ محنة وعذابا لهم في الآخرة. أو ابتلاء لهم في الدنيا، وذلك أنهم قالوا: كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر، فكذبوا. وقرئ: {نابتة فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} قيل: منبتها في قعر جهنم، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها: والطلع للنخلة، فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها: إما استعارة لفظية، أو معنوية، وشبه برءوس الشياطين دلالة على تناهيه في الكراهة وقبح المنظر، لأنّ الشيطان مكروه مستقبح في طباع الناس، لاعتقادهم أنه شر محض لا يخلطه خير، فيقولون في القبيح الصورة: كأنه وجه شيطان، كأنه رأس شيطان. وإذا صوّره المصورون: جاءوا بصورته على أقبح ما يقدر وأهوله، كما أنهم اعتقدوا في الملك أنه خير محض لا شر فيه، فشبهوا به الصورة الحسنة. قال اللّه تعالى {ما هذا بَشَرًا إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} وهذا تشبيه تخييلى. وقيل: الشيطان حية عرفاء لها صورة قبيحة المنظر هائلة جدا. وقيل: إنّ شجرا يقال له الأستن خشنا منتنا مرا منكر الصورة، يسمى ثمره: رؤوس الشياطين.
وما سمت العرب هذا الثمر برءوس الشياطين إلا قصدا إلى أحد التشبيهين، ولكنه بعد التسمية بذلك رجع أصلا ثالثا يشبه به مِنْها من الشجرة، أي من ظلعها {فَمالِؤُنَ} بطونهم لما يغلبهم من الجوع الشديد، أو يقسرون على أكلها وإن كرهوها، ليكون بابا من العذاب، فإذا شبعوا غلبهم العطش فيسقون شرابا من غساق أو صديد، شوبه: أي مزاجه مِنْ حَمِيمٍ يشوى وجوههم ويقطع أمعاءهم، كما قال في صفة شراب أهل الجنة {وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} وقرئ: {لشوبا} بالضم، وهو اسم ما يشاب به، والأوّل تسمية بالمصدر. فإن قلت:
ما معنى حرف التراخي في قوله {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْبًا} وفي قوله {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ} قلت:
في الأوّل وجهان، أحدهما: أنهم يملئون البطون من شجر الزقوم، وهو حارّ يحرق بطونهم ويعطشهم، فلا يسقون إلا بعد ملىّ تعذيبا بذلك العطش، ثم يسقون ما هو احرّ وهو الشراب المشوب بالحميم. والثاني: أنه ذكر الطعام بتلك الكراهة والبشاعة، ثم ذكر الشراب بما هو أكره وأبشع، فجاء بثم للدلالة على تراخى حال الشراب عن حال الطعام ومباينة صفته لصفته في الزيادة عليه. ومعنى الثاني: أنهم يذهب بهم عن مقارّهم ومنازلهم في الجحيم، وهي الدركات التي أسكنوها إلى شجرة الزقوم، فيأكلون إلى أن يتملئوا، ويسقون بعد ذلك، ثم يرجعون إلى دركاتهم، ومعنى التراخي في ذلك بين: وقرئ: {ثم إن منقلبهم} ثم إن مصيرهم، ثم إن منفذهم إلى الجحيم: علل استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد كلها بتقليد الآباء في الدين، واتباعهم إياهم على الضلال، وترك اتباع الدليل. والإهراع: الإسراع الشديد، كأنهم يحثون حثا. وقيل: إسراع فيه شبه بالرعدة.

.[سورة الصافات: الآيات 71- 74]:

{وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)}.
{وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ} قبل قومك قريش. {مُنْذِرِينَ} أنبياء حذروهم العواقب. {الْمُنْذَرِينَ} الذين أنذروا وحذروا، أي أهلكوا جميعا {إِلَّا عِبادَ اللَّهِ} الذين آمنوا منهم وأخلصوا دينهم للّه، أو أخلصهم اللّه لدينه على القراءتين.

.[سورة الصافات: الآيات 75- 82]:

{وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)}.
لما ذكر إرسال المنذرين في الأمم الخالية وسوء عاقبة المنذرين، أتبع ذلك ذكر نوح ودعائه إياه حين أيس من قومه، واللام الداخلة على نعم جواب قسم محذوف، والمخصوص بالمدح محذوف تقديره: فو اللّه لنعم المجيبون نحن، والجمع دليل العظمة والكبرياء. والمعنى:
إنا أجبناه أحسن الإجابة، وأوصلها إلى مراده وبغيته من نصرته على أعدائه والانتقام منهم بأبلغ ما يكون هُمُ الْباقِينَ هم الذين بقوا وحدهم وقد فنى غيرهم، فقد روى أنه مات كل من كان معه في السفينة غير ولده. أو هم الذين بقوا متناسلين إلى يوم القيامة. قال قتادة: الناس كلهم من ذرية نوح. وكان لنوح عليه السلام ثلاثة أولاد: سام، وحام، ويافث. فسام أبو العرب، وفارس، والروم. وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب. ويافث أبو الترك ويأجوج ومأجوج وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ من الأمم هذه الكلمة، وهي: سَلامٌ عَلى نُوحٍ يعنى يسلمون عليه تسليما، ويدعون له، وهو من الكلام المحكي، كقولك: قرأت سورة أنزلناها. فإن قلت: فما معنى قوله فِي الْعالَمِينَ؟ قلت: معناه الدعاء بثبوت هذه التحية فيهم جميعا، وأن لا يخلو أخد منهم منها، كأنه قيل: ثبت اللّه التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين يسلمون عليه عن آخرهم. علل مجازاة نوح عليه السلام بتلك التكرمة السنية من تبقية ذكره، وتسليم العالمين عليه إلى آخر الدهر بأنه كان محسنا، ثم علل كونه محسنا بأنه كان عبدا مؤمنا، ليريك جلالة محل الإيمان، وأنه القصارى من صفات المدح والتعظيم، ويرغبك في تحصيله والازدياد منه. اهـ.